"إني آنست نارا" (معناه في ضوء كلام العرب)

"إِنِّيٓ ءَانَسۡتُ نَارٗا"

(معناه في ضوء كلام العرب)

جاء الفعل "آنَسَ" في عدة مواضع من القرآن الكريم. ولو أنّ القرآن بنفسه أوضح معناه (رَءَا) ولكني أريد شيئًا من الكلام عنه لنعرف جهاتها ومدلولاته فنفهم بها بلاغة حسن اختيار القرآن الكريم للمفردات العربية. لندرس الآيات التي ورد فيها هذا الفعل. قال الله تعالى: ﴿ وَهَلۡ أَتَىٰكَ حَدِيثُ مُوسَىٰٓ * إِذۡ رَءَا نَارٗا فَقَالَ لِأَهۡلِهِ ٱمۡكُثُوٓاْ إِنِّيٓ ءَانَسۡتُ نَارٗا لَّعَلِّيٓ ءَاتِيكُم مِّنۡهَا بِقَبَسٍ أَوۡ أَجِدُ عَلَى ٱلنَّارِ هُدٗى ﴾ [سورة طه: 9، 10].

يبدو من النظر في هذه الآية أنّ موسى عليه السلام رأى النار من بعيد فلذا قال: "ٱمۡكُثُوٓاْ" لكي يذهب إليها فيأتي بقبس منها أو يستدلّ بها على الطريق.

ونفس الشيء ذكر في الآية التالية إلا أنّ ذكر الخبر مقدّم على القبس. وذلك طبق الموقع، والقرآن لا يقدّم شيئًا على شيء إلا لفائدة. فقال تعالى: ﴿ إِذۡ قَالَ مُوسَىٰ لِأَهۡلِهِۦٓ إِنِّيٓ ءَانَسۡتُ نَارٗا سَ‍َٔاتِيكُم مِّنۡهَا بِخَبَرٍ أَوۡ ءَاتِيكُم بِشِهَابٖ قَبَسٖ لَّعَلَّكُمۡ تَصۡطَلُونَ ٧ فَلَمَّا جَآءَهَا نُودِيَ أَنۢ بُورِكَ مَن فِي ٱلنَّارِ وَمَنۡ حَوۡلَهَا وَسُبۡحَٰنَ ٱللَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ ﴾ [سورة النمل: 8].

وكذا "تَصۡطَلُونَ" يشير إلى أنّ الموسم كان الشتاء. وفي الشتاء لا تتجلّى النار إذا كانت بعيدة بل هي تلمح للأعين.

وأما الآية القادمة فهي تشير إلى موقع النار، وكونُها على جانب جبلٍ يدلّ على أنّ النار كانت بعيدة وفي موسم الشتاء فقال تعالى: ﴿ فَلَمَّا قَضَىٰ مُوسَى ٱلۡأَجَلَ وَسَارَ بِأَهۡلِهِۦٓ ءَانَسَ مِن جَانِبِ ٱلطُّورِ نَارٗاۖ قَالَ لِأَهۡلِهِ ٱمۡكُثُوٓاْ إِنِّيٓ ءَانَسۡتُ نَارٗا لَّعَلِّيٓ ءَاتِيكُم مِّنۡهَا بِخَبَرٍ أَوۡ جَذۡوَةٖ مِّنَ ٱلنَّارِ لَعَلَّكُمۡ تَصۡطَلُونَ ٢٩ ﴾ [سورة القصص: 29].

فبدا من هذه الآيات الثلاث أنّ الإيناس رؤية الشيء من بعيد ولاسيما رؤية شيء لامح.

ومن هنا تتجلى لنا بلاغة الفعل في آية سورة النساء حيث أنّ القائم على أمور اليتامى لا يفوّضها إليهم إلا وقد وجد فيهم على الأقل لمحة من البلوغ. والرشد درجة نهائية من البلوغ لا يبلغ فيها الإنسان الحلم فحسب بل يكاد يقدر على فهم الأمور فهمًا دقيقًا فقال تعالى: ﴿ وَٱبۡتَلُواْ ٱلۡيَتَٰمَىٰ حَتَّىٰٓ إِذَا بَلَغُواْ ٱلنِّكَاحَ فَإِنۡ ءَانَسۡتُم مِّنۡهُمۡ رُشۡدٗا فَٱدۡفَعُوٓاْ إِلَيۡهِمۡ أَمۡوَٰلَهُمۡۖ وَلَا تَأۡكُلُوهَآ إِسۡرَافٗا وَبِدَارًا أَن يَكۡبَرُواْۚ وَمَن كَانَ غَنِيّٗا فَلۡيَسۡتَعۡفِفۡۖ وَمَن كَانَ فَقِيرٗا فَلۡيَأۡكُلۡ بِٱلۡمَعۡرُوفِۚ فَإِذَا دَفَعۡتُمۡ إِلَيۡهِمۡ أَمۡوَٰلَهُمۡ فَأَشۡهِدُواْ عَلَيۡهِمۡۚ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ حَسِيبٗا ﴾ [سورة النساء: 6].

ولنتتبع استخدام هذا الفعل ومفعوله في كلام العرب فنفهم به بلاغة استخدام القرآن الكريم. قال امرؤ القيس:

فآنستُ سربًا من بعيدٍ كأنه ♦♦♦ رواهِبُ عيدٍ في مُلاءٍ مُهَدَّب[1]

فأوضح امرؤ القيس في شعره أنّه لمح له السرب من مكان بعيد.

وقال الشنفري:

لها وَفْضةٌ فيها ثلاثونَ سيحقًا ♦♦♦ إذا آنَسَتْ أولى العدِيّ اقشعرّت[2]

ورواية الأغاني "وإذاما رأت" ولكن الرواية الأولى أبلغ لأنّها لم ترهم إلا وهم كانوا بعيدين عنها، وتدلّ على هذا البعد كلمة "أولى".

وقال زهير بن أبي سلمى:

أمين الشوى، شحط، إذا القوم آنسوا  ♦♦♦ مدى العين شخصًا كان بالشخص أبصرا[3]

هذا والبيت التالي يدلّ على نفس المعنى بأنّ الناس قد لمح لهم الشخص من بعيد وعلى هذا فاستخدم الشاعر كلمة "مدى العين" فقال ولده كعب بن زهير:

أمين الشظى عبلٍ إذا القومُ آنسوا  ♦♦♦ مدى العين شخصًا كان بالشخص أبصرا[4]

وكذا يلمح من هذين البيتين أنّ الفرس بصره أشدّ من بصر الإنسان.

وقال الحارث بن حلّزة اليشكري:

آنستْ نبأة وأفزعها القُنّاص ♦♦♦ عصرًا وقد دنا الإمساء[5]

ففي هذا البيت ذهب الشاعر نفس المذهب فتنكير كلمة "نبأة" يدلّ على أنها لم ترها جيدًا.

ويؤيده البيتان القادمان لسويد بن أبي كاهل اليشكري وروبة بن العجاج فقال الأول:

ساكنُ القفر أخو دَوّيّةٍ وإذاما آنَسَ الصوتَ امَّصَع كَتَبَ الرحمنُ، والحمدُ له، سعةَ الأخلاق فينا والضَلَع وإباءً للدنيّات إذا أعطي المكثورُ ضيمًا فكَنَع وبناءً للمعالي، إنما يرفع اللهُ ومن شاء وَضَع نِعَمٌ لله فينا ربَّها وصنيعُ الله، واللهُ صَنَع[6]

وقال الثاني:

حتى إذا رِيعُ[7] الضحى تريَّعا ♦♦♦ آنس ضمّازًا إذا تسمَّعا[8]

و"ضمازًا" أي إذا تَسَمَّعَ سَكَتَ.

وكذا قالت ليلى الأخيلية:

فآنستُ خيلًا بالقُرقيّ مغيرةً ♦♦♦ سوابقُها مثل القطا المتواتر[9]

وقال ربيعة بن مقروم:

فلمّا تبيّنَ أن النهارَ ♦♦♦ تولّى وآنس وجفًا[10] بهيما[11]

وقال حميد بن ثور الهلالي:

فآنسَ من كُلّانَ شُمًّا كأنها ♦♦♦ أراكيبُ من غسّانَ بيضٌ برودُها[12]

وأراد الهلالي بالشمّ الجبالَ، والأراكيب جمعُ أركوب: أصحاب الإبل في السفر إلا أنّ الأركوب أكثر عددًا.

وكلا البيتين السالفين بليغ في معنى لمح الشيء.

وقد تجلّت بلاغة الفعل في قول أبي ذويب الهذلي:

وقلت له: هل كنتَ آنستَ خالدًا ♦♦♦ فإن كنتَ قد آنستَه فتأرّق[13]

وقال ساعدة بن جويّة واستعمال "قد" حوّله من اللمح إلى الرؤية:

وإذا يجيء مُصَمِّتٌ من غارة ♦♦♦ فيقول قد آنستُ هيجًا فاركبوا[14]

وفيما يلي ستة أبيات تدلّ على ما تدلّ عليه آية سورة النساء فقال أبو خِراش الهذلي:

وإني إذاما الصبحُ آنستُ ضوءه ♦♦♦ يعاودني قِطعٌ عليّ ثقيل[15]

وقال صخر الغيّ:

يبيتُ إذاما آنس الليلَ كانسًا ♦♦♦ مبيتَ الغريب ذي الكساء المحارب[16]

وقال رقيع الوالبي:

وآنستُ في الأعداء حولي شماتةً  ♦♦♦ بها نظرتْ نحوي العيونُ النواظر[17]

وقال الحطيئة:

وإنْ آنستْ وقعًا من السوط عارضتْ  ♦♦♦ بي الجوز حتى تستقيم ضحى الغد[18]

وقال عبد الله بن سيرة الحرَشي:

بنانتان وجُذمور أقيم به ♦♦♦ صدرَ القناة إذاما آنسوا فزَعا[19]

وقال آخر:

أقصرْ فإنك ما لم تؤنسوا فزعًا ♦♦♦ عند المراء خسيف النوك قبقاب[20]

وقال عملّس بن عقيل بن عُلَّفة:

وأمّا إذا آنستَ أمنًا ورِخوةً ♦♦♦ فإنّك للقربى ألدُّ خَصُومُ[21]

هذا، وقد بدا من دراسة الشواهد السالفة أنّ الإيناس لا يأتي إلا لرؤية الشيء من بعيد أو فراسة أمر ما مثل الشماتة والفزع والأمن، وأنّ هذه الأشياء لا تبدو جليًا إلا أنّ عين الناظر البصير تفرسها فالنار كانت لامحة إلا أنّ موسى البصير قد أبصر بها كما أنّ الرشد يبصر به الرجل المجرّب إذا لمح له. وعلى هذا فقد أورد القرآن الكريم "إنْ" الشرطية في سورة النساء ليتيقّن الرجل أنّ اليتيم قد زاره الرشد مع بلوغه سنَّ النكاح. فإنّ مجرد بلوغ سنّ النكاح لا يعني أنّ المرء قد أصبح رشيدًا. وسنتحدث عن الفرق بين بلوغ الحلم وبلوغ الرشد في مقال آخر إنْ شاء الله تعالى.

المصادر والمراجع:

1- القرآن الكريم.

2- ديوان الحارث بن حلزة بشرح الدكتور إميل بديع يعقوب، دار الكتاب العربي، بيروت، 1991م.

3- ديوان الحطيئة، دراسة وتبويب: د. مفيد محمد قميحة، درا الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1993م.

4- ديوان الشنفري، جمع وتحقيق: د. إيميل بديع يعقوب، دار الكتاب العربي، بيروت، ط2 1996م.

5- ديوان المفضليات للمفضل الضبي، تحقيق وشرح: أحمد محمد شاكر وعبد السلام محمد هارون، دار المعارف، ط6.

6- ديوان الهذليين، الجمهورية العربية المتحدة، الثقافة والإرشاد القومي، طبعة دار الكتب، 1996م.

7- ديوان امرئ القيس، ضبطه وصحّحه: الأستاذ مصطفى عبد الشافي، دار الكتب العلمية، بيروت، 2004م.

8- ديوان حميد بن ثور الهلالي، صنعة: الأستاذ عبد العزيز الميمني، مطبعة دار الكتب المصرية، القاهرة، 1951م.

9- ديوان زهير بن أبي سلمى، شرح وتقديم: الأستاذ علي حسن فاعور، دار التب العلمية، بيروت، ط: 1، 1988م.

10- ديوان كعب بن زهير، تحقيق: الأستاذ علي فاعور، دار الكتب العلمية، بيروت، 1997م.

11- شاعرات العرب في الجاهلية والإسلام، جمع وترتيب: بشير يموت، المطبعة الوطنية، ط1، 1934م.

12- شرح ديوان الحماسة للعلامة التبريزي، دار القلم، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى.

13- شرح ديوان روبة بن العجاج، تحقيق: د. ضاحي عبد الباقي محمد، جمهورية مصر العربية، مجمع اللغة العربية، ط1، 2011م.

14- عشرةُ شعراء مقلّون، صنعة: أ.د. حاتم صالح الضامن، وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، جامعة بغداد، العراق، 1990م.

15- قصائد نادرة من كتاب منتهى الطلب من أشعار العرب لمحمد بن المبارك البغدادي، د. حاتم صالح الضامن، مؤسسة الرسالة، ط1، 1983م.

16- كتاب الوحشيات، أبو تمام الطائي، تحقيق: عبد العزيز الميمني الراجكوتي، وزيادة: محمود محمد شاكر، ط3، دار المعارف، القاهرة، مصر، 1968م.

17- المخصص لأبي الحسن علي بن إسماعيل النحوي الأندلسي (458هـ)، دار الكتب العلمية، بيروت، د.ت.